الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فشهر صفر ليس شهرًا منحوسًا كما يعتقد البعض، وليس من عقيدة المؤمن أن يستاء من هذا الشهر، أو أن يتضجر، أو أن يمتنع من مزاولة أموره الشخصية في شئون حياته.
ومن الخطأ ما يعتقده البعض أن هذا الشهر شهر نحس وشؤم، بل على العكس هو كبقية الأشهر والأيام.
ولو تصفحنا التاريخ لوجدنا أنه قد حصل في هذا الشهر بشائر وحوادث مشرقة للأمة، وحدثت أحداث مشرفة، ومنَّ الله على الأمة بالفتوحات الإسلامية، والنصر المؤزر.
ولو كان التشاؤم صحيحًا لما قام الفاتحون بما قاموا به. وسنعرض بعضًا من هذه الأحداث والوقائع على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر، فمما وقع في هذا الشهر:
أولًا: غزة الأبواء:
فقد "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفر غازيًا على رأس اثني عشر شهرًا من مقدمه المدينة لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر صفر، حتى بلغ ودان، وكان يريد قريشًا، وبني ضمرة.
وهي غزوة الأبواء، ثم رجع إلى المدينة، وكان استعمل عليها سعد بن عبادة"[1]. وهذه أول غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانيًا: فتح خيبر:
"قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني قد أعطى ابن لُقَيم العبسيّ حين افتتح خيبر ما بها من دجاجة أو داجن، وكان فتح خيبر في صفر"[2].
ثالثًا: سرية قطبة بن عامر بن حديدة:
"سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم بناحية بيشة قريبًا من تربة في صفر سنة تسع، قال ابن سعد: قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قطبة في عشرين رجلًا إلى حي من خثعم بناحية تبالةز
وأمره أن يشن الغارة، فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، فأخذوا رجلًا فسألوه فاستعجم عليهم.
فجعل يصيح بالحاضرة، ويحذرهم؛ فضربوا عنقه، ثم أقاموا حتى نام الحاضر فشنوا عليهم الغارة فاقتتلوا قتالًا شديدًا حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعًا، وقَتَل قطبة بن عامر مَن قتل، وساقوا النعم، والشاء، والنساء إلى المدينة.
وجاء سيل أتى فحال بينهم وبينه فما يجدون إليه سبيلًا، وكانت سهمانهم أربعة أبعرة، والبعير يعدل بعشر من الغنم بعد أن أفرد الخمس"[3].
رابعًا: غزوة ذي أمر:
"عن ابن إسحاق قال: ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة السويق أقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم أو عامته، ثم غزا نجدًا يريد غطفان وهي غزوة ذي أمر، فأقام بنجد صفر كله، أو قريبًا من ذلك، ثم رجع إلى المدينة فلم يلق كيدًا"[4].
خامسًا: وفد بني عذرة:
"قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدُ بني عذرة في صفر سنة تسع، اثنا عشر رجلًا فيهم جمرة بن النعمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من القوم؟
فقال متكلمهم: من لا تنكر، نحن بنو عذرة، إخوة قصيّ لأمه، نحن الذين عضدوا قصيًّا، وأزاحوا من بطن مكة خزاعة، وبني بكر، ولنا قرابات وأرحام.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مرحبًا بكم وأهلًا، ما أعرفني بكم)، فأسلموا، وبشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح الشام.
وهرب هرقل إلى ممتنع بلاده، ونهاهم عن سؤال الكاهنة، وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها، وأخبرهم أن ليس عليهم إلا الأضحية، فأقاموا أيامًا بدار رملة، ثم انصرفوا وقد أجيزوا"[5].
سادسًا: إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم:
"عن ابن إسحاق قال: كان إسلام عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة؛ عند النجاشي فقدموا إلى المدينة في صفر سنة ثمان من الهجرة"[6].
سابعًا: هجرته عليه الصلاة والسلام:
"قال يزيد بن أبي حبيب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة في صفر، وقدم المدينة في ربيع الأول"[7].
ثامنًا: زواجه صلى الله عليه وسلم من خديجة بنت خويلد رضي الله عنها:
"قال ابن إسحاق: في شهر صفر كان زواج السيدة خديجة بنت خويلد-رضي الله عنها- من النبي محمد صلى الله عليه وسلم عقب خمسة وعشرين يومًا من صفر سنة ست وعشرين"[8].
تاسعًا: زواج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالسيدة فاطمة رضي الله عنها:
قال ابن كثير: "وأما فاطمة-رضي الله عنها- فتزوجها ابن عمها علي بن أبى طالب-رضي الله عنه- في صفر سنة اثنتين، فولدت له الحسن والحسين، ويقال: ومحسن، وولدت له أم كلثوم وزينب"[9].
عاشرًا: غزو الروم:
في شهر صفر لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لغزو الروم، وأمرهم بالجد، ثم دعا من الغد يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر أسامة بن زيد، و"بعثه النبي صلى الله عليه وسلم لأربع بقين من صفر.
وأمره من غزو الروم والإغارة عليهم بما أمر، وعقد له لواء بيده المباركة، وجهزه في المهاجرين والأنصار أرباب الصوارم الفاتكة"[10]، وقد حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببعث هذا الجيش.
فهذه بعض الأحداث المشرقة التي حدثت للأمة ووقعت في شهر صفر، وكلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتشاءم من هذا الشهر، بل كان يتعامل فيه كما يتعامل في بقية الأشهر، فقد تزوج في هذا الشهر.
وزوَّج ابنته بعلي-رضي الله عنهما- في هذا الشهر، وغزا في هذا الشهر.
وهذا كله يدل دلالة واضحة على إبطال دعاوى من يَدَّعِي أن هذا الشهر شهر شؤم ونحس، ولهذا نقول لمن تشاءم من هذا الشهر: أين أنتم من هذا الهدي النبوي؟ وماذا تقولون أو تردون؟ وما موقفكم من هذه النصوص؟
وفي الجانب الآخر نجد أنه كما حدث في شهر صفر أحداث مشرقة للأمةز
فكذلك حدثت أحداث مأساوية للأمة في شهر صفر، وهذا لا يعني أن هذا الشهر شهر شؤم تقع فيه المصائب؛ لأنه لا دخل للزمن فيما قدره الله، ولا يجلب الزمن أو يرد قضاء الله وقدره، ومن تلك الأحداث:
أولًا: غزوة الرجيع:
و"كان أصحاب الرجيع ستة نفر منهم: عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق حليف لبني ظفر.
وخالد بن البكير الليثي، ومرثد بن أبي مرثد، وكان من شأنهم أن نفرًا من عضل والقارة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالوا: إن فينا مسلمين، فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهوننا. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، حتى نزلوا بالرجيع؛ استصرخوا عليهم هذيلًا.
فلم يرع القوم إلا والقوم مصلتون عليهم بالسيوف، وهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم، فقالت هذيل: إنا لا نريد قتالكم. فأعطوهم عهدًا وميثاقًا لا يريبونهم..
فاستسلم لهم خبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، ولم يستسلم عاصم بن ثابت.
ولا خالد بن البكير، ولا مرثد بن أبي مرثد، ولكن قاتلوهم حتى قتلوا، وخرجت هذيل بالثلاثة الذين استسلموا لهم حتى إذا كانوا بمرِّ الظهران نزع عبد الله بن طارق يده من قرانه ثم أخذ سيفًا؛ فرموه بالحجارة حتى قتلوه.
وقدموا بخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة مكة. فأما خبيب فابتاعه آل حجير بن أبي إهاب فقتلوه بالحارث بن عامر، وابتاع صفوان بن أمية زيد بن الدثنة، فقتله بأبيه"[11].
ثانيًا: مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
"مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاثنين وعشرين ليلة من صفر، وبدأ وجعه عند وليدة له يقال لها ريحانة كانت من سبي اليهودز
وكان أول يوم مرض يوم السبت، وكانت وفاته يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول لتمام عشر سنين من مقدمه المدينة"[12].
ثالثًا: معركة صفين والتحكيم:
في شهر صفر سنة سبع وثلاثين التقى علي-رضي الله عنه- وصحبه بمعاوية-رضي الله عنه- ومؤازريه في صفين، ودام القتال بينهم أيامًا.
فهذه بعض الأحداث الأليمة التي وقعت في الأمة الإسلامية خلال شهر صفر، والمتأمل في هذه الأحداث يجد أن لا دخل لشهر صفر وعلى مدار التاريخ في صنع الأحداثز
ومن خلال هذا يُفهم أن هذا الشهر لا يختص بخير ولا بشر، فهو زمن من الأزمنة، وشهر من الشهور، يقع فيه ما يقدره الله-عز وجل- من خير أو شر وفق مقاديره تبارك وتعالى.
وهو داخل تحت قوله عز وجل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36].
وإن التشاؤم الذي يعتقده بعض من ينتسب إلى الدين الإسلامي ليس صحيحًا، ولا يستند إلى دليل شرعي من كتاب الله تبارك وتعالى، ولا من سنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلمز
ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه-رضي الله عنهم- تشاءم بهذا الشهر ولا بغيره، بل الناظر إلى ما جاء من الشارع الحكيم يجد أن الدين الإسلامي حارب هذه البدعة.
حيث كانت هذه البدعة موجودة قبل ظهور الإسلام (أي في عصور الجاهلية)، وكانت قد استشرت فيما بينهم؛ لأنهم كانوا يرجعون في هذا الشهر إلى أعمال السلب والنهب بعدما كانوا يمتنعون عن ذلك خلال الأشهر الحُرُم الثلاثة التي قبله، وهذا ما ورد في سبب تسمية هذا الشهر بصفر.
وحين جاء الإسلام نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التشاؤم بهذا الشهر، أو التطير به، فقد ثبت عن أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لا عَدْوَى، وَلا طِيَرَةَ، وَلا هَامَةَ، وَلا صَفَرَ"[13].
وأراد صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث نفي ما كان يعتقده أهل الجاهلية من الاعتقادات الباطلة التي تؤثر في القلب، وتضعف الظن الحسن بالله عز وجل، فقوله: "ولا صفر":
وهو تأخير المحرم إلى صفر في النسيء، أو دابة بالبطن تعدى عند العرب، ويحتمل أن يكون نفيًا لما يتوهم أن شهر صفر تكثر فيه الدواهي والفتن"[14].
فأبطل بذلك النبي صلى الله عليه وسلم قضية التشاؤم في شهر صفر، وأنه ليس من الدين في شيء، وأن شهر صفر شهر من الأشهر التي عدَّها الله عز وجل.
وأيامه من أيام الله تبارك وتعالى، وليس فيها ما يدَّعيه بعض الجهلة بالدين من الذين لبَّس الشيطان عليهم.
وما يحدث في هذا الشهر من بعض المسلمين؛ بدعة محدثة في الدين يدخل فيما روت أم المؤمنين عَائِشَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ"[15].
ولا حاجة لما يحدثه الفريق الثاني ممن يقع في قضية مقابلة البدعة بالبدعة دون أن يشعروا من خلال أنهم يقابلون من يعتقد في شهر صفر بالشؤم ونحوه من الاعتقادات التي لا تصح؛ بأن يقولوا في شهر صفر بأنه صفر الخير.
وهؤلاء وإن كان يدفعهم حبهم لمنهجهم فيقومون بمخالفة أهل الجاهلية في تشاؤمهم بشهر صفر، فتجدهم يؤرخون فيقولون: نحن في شهر صفر شهر الخير.
إلا أن هذا الفعل يدخل في باب مدافعة البدعة بالبدعة؛ لأن هذا الشهر ليس شهر خير ولا شر، بل هو كبقية الأشهر، ويقع فيه ما قدره الله-عز وجل- من المقادير.
ولا يحصل فيه إلا ما قضاه وقدره الله، ولم يخص-سبحانه- هذا الشهر بوقوع مكاره، ولا بحصول مصائب، فهو شهر من أشهر الله، وزمان من الأزمنة، والأزمنة لا دخل لها في التأثير ولا في ما يقدره الله سبحانه.
فعلى المسلم الحق أن يتمسك بما ثبت عن الله عز وجل، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال، والتي سار عليها خير هذه الأمة من الصحابة-رضوان الله عليهم أجمعين- دون أن يزيد في العبادات والشعائر؛ فالدين الإسلامي دين كامل لا يحتاج إلى من يزيد فيه.
ولن يكون أعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا من أصحابه رضي الله عنهم. وليعلم علمًا يقينيًّا حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه:
"مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ"[16].
فليحذر مروجو البدع من هذا، وليعلموا أن أوزار من اتبعهم من الناس، ووقعوا في هذه البدعة؛ لهم نصيب منها بنص هذا الحديث الشريف.
نسأل الله عز وجل أن يهدينا سواء السبيل، وأن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
[1] عيون الأثر 1/295.
[2] تهذيب سيرة ابن هشام 1/334.
[3] عيون الأثر 2/238.
[4] دلائل النبوة للبيهقي 3/184.
[5] عيون الأثر 2/309.
[6] المعجم الكبير 9/61.
[7] صفة الصفوة 1/125.
[8] سبل الهدى والرشاد 2/165.
[9] السيرة النبوية لابن كثير 4/611.
[10] المقتفى من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم 1/82.
[11] دلائل النبوة للبيهقي 3/402.
[12] عمدة القاري شرح صحيح البخاري 26/343.
[13] البخاري (5316)، ومسلم (4116).
[14] فيض القدير 6/561.
[15] البخاري (2499)، ومسلم (188).
[16] الشرح المختصر على بلوغ المرام 3/292، بتصرف.
المصدر: موقع إمام المسجد